رد على خالد الصمدي: التعصيب محض اجتهاد ظالم للإناث
في حمأة التصدي للمطالب النسائية والحقوقية بإلغاء التعصيب الذي يشرعن أكل أموال الإناث بالباطل، نشر خالد الصمدي، بموقع الحزب بتاريخ 9 أبريل 2024، مقالا تحت عنوان "هل الإرث بالتعصيب محض اجتهاد؟"، يحاول فيه، يائسا، الرد على الأصوات المطالبة بمراجعة مدونة الأسرة إنصافا للإناث. ولا تخفى دوافع وخلفيات السيد الصمدي المنتمي للبيجيدي، الحزب الذي ناهض ولاية المرأة على نفسها كما ناهض الطلاق القضائي لتبقى الزوجة أمَة وجارية ورهينة بيد الزوج المعنِّف لها؛ بل الحزب الذي جاء بمشروع قانون جنائي يشرعن قتل الإناث بدافع "الشرف" حيث رفع التجريم عن "جرائم الشرف" بأن خفّض عقوبتها من الإعدام والمؤبد إلى بضعة شهور قد تكون موقوفة التنفيذ. خالد الصمدي الذي تحمل المسؤولية الحكومية، لا يؤمن باقتسام الممتلكات الزوجية ولا بمنع تزويج القاصرات، ولا بولاية المرأة على نفسها وعلى أولادها. ومن كان هذا دأبه وقناعته الإيديولوجية المشرعنة للعنف ضد النساء، لا يمكنه أبدا أن يرى في مطالب النساء إنصافا لهن وتحقيقا لمقصد العدل الذي هو جوهر الشريعة. لهذا نجده لا يدخر جهدا، منذ أن أعلن جلالة الملك عن مراجعة مدونة الأسرة. فكل مقالاته لم تقدم ولو حلا بسيطا لأي مشكلة من المشكلات التي تعاني منها الإناث؛ بل جميعها تناهض مطالب النساء وحقوقهن. مجهود عقيم سيلقى نفس مصير ما بذله حزبه وحركته ضد مشروع خطة إدماج المرأة في التنمية. ذلك أن التغيير سنة الله في خلقه وهو قانون تخضع له المجتمعات ولا يمكن لأي قوة حجزه. وما قدمه السيد الصمدي لا يعدو أن يكون تشبثا بأكثر التأويلات تشددا للنصوص الدينية المتعلقة بالإرث، والتي تشرعن الظلم وأكل أموال الناس بالباطل. وقد جاءت مقالته، موضوع الرد، مليئة بالمغالطات والتناقضات أبرزها:
1 ـ مغالطة الاستدلال الدائري: حيث صادر على أن "نظام الإرث في الاسلام كما هو معلوم لدى الجميع كله فريضة من الله وبيان من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا مجال فيه للاجتهاد سواء في ذلك الإرث بالفرض أو الإرث بالتعصيب". في حين أن نظام الإرث اختلف حوله المسلمون اختلافا جوهريا كما هو الحال في موضوع التعصيب بين الشيعة والسنة. فإذا كانت المذاهب الفقهية السنية تأخذ بالتعصيب، فإن المذاهب الفقهية الشيعة تقول إن الإرث يكون بالفرض أو القرابة، بحيث يعطى الفرض لصاحبه، أما الباقي فيعطى للأقرب رحماً سواء كان ذكراً أو أنثى. ومن ثم فالقول بالتعصيب باطل عند الشيعة. ومما يستند إليه الشيعة قول ابن عباس فيمن ترك بنتا وأختا: إن المال كله للبنت دون الأخت. وبذلك أعطيت كل التركة إلى البنت حتى مع وجود العم أو أبنائه.
ويعزِّز موقفَ الشيعة من التعصيب اجتهاد الرسول (ص) حين ورّث دُورَ المهاجرين للنساء. ففي حديث لأبي داود عن عبد الواحد بن عتاب، عن عبد الواحد بن زياد، عن الأعمش، عن جامع بن شداد، عن كلثوم عن زينبَ "أنَّها كانت تَفْلي رأسَ رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ وعندَهُ امرأةُ عثمانَ بنِ عفَّانَ ونساءٌ منَ المُهاجراتِ وَهنَّ يشتَكينَ منازلَهنَّ أنَّها تضيقُ عليْهنَّ ويخرُجنَ منْها فأمرَ رسولُ اللَّهِ صلّى اللَّه عليه وسلم أن تورَّثَ دورَ المُهاجرينَ النِّساءَ فماتَ عبدُ اللَّهِ بنُ مسعودٍ فوُرِّثتْهُ امرأتُهُ دارًا بالمدينةِ".
إذن القول بأنه "لامجال للاجتهاد في الإرث" قول باطل ومردود عليه.
2 ـ إنكار الاجتهاد في حديث منسوب إلى الرسول ، حيث أعطى الصمدي لنفسه الحق في إغلاق باب الاجتهاد وتمرير مغالطته أن حديث “ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى رجل ذكر” رواه البخاري ومسلم، فهو نص صريح لا يقبل التأويل ولا الاجتهاد". مغالطة وإنكار مكشوفان تثبت أحادية التفكير عن الصمدي وانغلاقه على البضاعة المزجاة التي تغذي عداءه للنساء وحقده على المطالبين بإنصافهن. فهذا الحديث الذي يتمسك به الصمدي عساه يسعفه في تبرير أكل أموال الإناث بالباطل، ضعّفه كثير من الأئمة والفقهاء لكون راويه عبد اللّه بن طاووس مجروحا. فقد روي عن ابن عباس وطاووس والد عبد اللّٰه تكذيبه، وتبرؤهما من هذا الخبر. روى ذلك أبو طالب الأنباري قال: حدثنا محمد بن أحمد البربري، قال: حدثنا بشر بن هارون، قال: حدثنا الحميدي، قال: حدثني سفيان، عن أبي إسحاق، عن قارية بن مضرب قال: جلست عند ابن عباس وهو بمكة فقلت: يا ابن عباس حديث يرويه أهل العراق عنك وطاووس مولاك يرويه: أن ما أبقت الفرائض فلأولى عصبة ذكر؟ قال: أمن أهل العراق أنت؟ قلت: نعم قال: أبلغ من وراءك أني أقول: إن قول اللّٰه عز وجل (آبٰاؤُكُمْ وَأَبْنٰاؤُكُمْ لٰا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللّٰهِ) و قوله (وَأُولُوا الْأَرْحٰامِ بَعْضُهُمْ أَوْلىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتٰابِ اللّٰهِ) وهل هذه إلا فريضتان و هل أبقتا شيئاً؟ ما قلت هذا، ولا طاووس". قال قارية بن مضرب: فلقيت طاووسا فقال: لا والله ما رويت هذا على ابن عباس قط وإنما الشيطان ألقاه على ألسنتهم. وفي المقابل أفتى ابن عباس بالتركة كلها للبنت في عدم وجود الابن الذكر. وفي نفس السياق روى البخاري في باب ميراث البنات قال: (حدثنا الحميدي، حدثنا سفيان، حدثنا الزهري، أخبرني عامر بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه قال: مرضت بمكة مرضاً فأشفيت منه على الموت فأتاني النبي (صلى الله عليه وسلم) يعودني فقلت: يا رسول اللّٰه إن لي مالًا كثيراً، وليس يرثني إلا ابنتي أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال: لا، قلت: فالشطر؟ قال: لا، قلت: الثلث؟ قال: الثلث كبير، إنك إن تركت ولدك أغنياء خير من أن تتركهم عالة يتكففون الناس). فالرسول (ص) لم يأمر سعد بن أبي وقاص أن يترك نصيبا للعصبة من إخوته أو أبنائهم. وعن ابن عباس أن النبي (ص) لما قُتل حمزة بن عبد المطلب بعث علي ابن ابي طالب فأتاه علي بابنة حمزة فسوغها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الميراث كله. وهذا دليل على أن التعصيب ليس من القرآن ولا شرّعه الرسول.
من تناقضات السيد الصمدي:
1 ـ إثبات الاجتهاد بعد نفيه: إذ جاء في المقال: "وقد تضمن الفقه الاسلامي حلا لهذه النازلة (الأسر التي رزقت إناثا دون ذكور) في نظام الهبة والصدقة دون المساس بنظام الإرث، ويتمثل هذا الحل في هبة الأب لابنته أو بناته ما يشاء من ممتلكاته قيد حياته إن خشي عليهم ضيق العيش بعد وفاته مع احتفاظه بحق الانتفاع منها". وهذا إقرار بلجوء الفقهاء إلى الاجتهاد فأوجدوا مخارج للأسر التي لم ترزق ذكورا لحماية بناتها من العصبة الأعمام أو أبنائهم. هذه الحلول نفسها تطرح إشكالين:
أولهما: الاعتداء على حقوق الغير. فإذا كان نصيب العصبة حقا تفرضه الشريعة على المالك وتضمنه للورثة بالتعصيب، فإن التحايل عليه باللجوء إلى الهبة أو الصدقة هو حرمان للعصبة من حق شرعي وأكل له بالباطل. وهذا يتنافى مع الدين، بل هو رفض لحكم الله وعدم الرضا بالتقسيم الإلهي للتركة.
ثانيهما: أن تلك الحلول غير مضمونة العواقب وقد يكون فيها ظلم لمن سيولدون من بعد. ذلك أن المرء لا يعلم خاتمته وموعد مماته. فقد يموت الأب في حادثة سير مثلا، وهو شاب وله ابنة واحدة وكان يرجو الله أن يرزقه ذكرا لكن الموت لم يسعفه. ففي هذه الحالة سيؤول جزء مهم من التركة لفائدة العصبة الذين لم يساهموا في مراكمته، وقد يكون سكنا يتم بيعه فتجد البنت نفسها دون مأوى. فضلا عن هذا، فإن نظام الهبة والصدقة قد يصلح لمن بلغ من العمر عتيا ويئس من الإنجاب، ومن منا يضمن بلوغ هذا السن؟ فكثير من الأسر كانت تؤجل اللجوء إلى الهبة أو الصدقة أملا في إنجاب ولد ذكر، أو كانت تطمئن لصحة معيليها وكفاءتهم في تحصيل ومراكمة مزيد من الممتلكات حتى فاجأتها الموت دون أن يترك لها فرصة لتوقيع الهبة أو الصدقة.
2 ـ إثبات الظلم رغم المكابرة في نفيه: لم تسعف السيد الصمدي مُلاوَصاته ولا مراوغاته لينفي عن نظام الإرث الظلم الذي يُلحِقه التعصيب بالإناث، لأن الواقع الاجتماعي مليء بهذه الحالات التي ترتب عنها تشريد البنات وحرمانهن مما تركه لهن الآباء. فما كان منه إلا أن يثب حالة الظلم: "وتبقى الحالة التي يتداولها النشطاء ويركبون عليها للدعوة إلى إلغاء نظام الإرث بالتعصيب هي حالة ميراث الاعمام أو أبنائهم إن اجتمعوا في التركة مع بنت أو بنات المتوفى حين غياب الابن الذكر العاصب، مع إثارة ما يترتب عن ذلك من ظلم محتمل للبنات وأمهم". إذن، الظلم ثابت ولا يمكن التمادي في إنكاره؛ الأمر الذي يتطلب التعجيل برفعه عبر إلغاء التعصيب واعتماد قاعدة "الرد".
ولِعِلم السيد الصمدي أن فقه المواريث تضمن اجتهادات لم ترد لها نصوص في القرآن ولا السنة. ومنها "العوْل " ويقصد به الزيادة في عدد السهام والنقص في أنصبة الورثة. وهو في ظاهره وجوهره مخالف للشرع من حيث كونه ينقص من نصيب الورثة. والعول لم يقع في مسائل الفرائض في زمن الرسول (ص) ولا في زمن أبي بكر، فهما لم يعرفانه ولا عمِلا به. وأول من قال بالعول وطبّقه هو عمر بن الخطاب الذي وقعت في عهده مسألة ضاق أصلها عن فروضها، فشاور الصحابةَ فيها، فأشار عليه زيد بن ثابت بالعول، فوافق ذلك رأي عمر وقال: "والله ما أدري أيكم قدم الله، وأيكم أخر، وما أجد شيئاً هو أوسع لي أن أقسم المال عليكم بالحصص" . وبهذا يكون "العوْل" حلاّ من صحابي وليس وحيا الهيا.
ومن اجتهادات المسلمين داخل نظام الإرث اعتمادهم قاعدة "الرّد". وتقوم قاعدة الرد على توزيع التركة على أصحاب الفروض وما بقي منها يعاد توزيعه عليهم حسب أنصبتهم خصوصا عند وجود الإناث حماية لهن من التعصيب. وقد طبق الرسول (ص) قاعدة الرد وجعل التركة من نصيب البنت/البنات دون العَصَبة كما هو بيّن في الأحاديث النبوية التالية:
ـ قال النبي صلى الله عليه وسلم "من ترك مالا فلورثته ومن ترك كَلاّ فإليّ" وفي لفظ "من ترك دَيْنا فإليّ ومن ترك مالاً فللوارث" إذن المال للورثة من ذوي الأرحام وفق ما تنص عليه الآية الكريمة (وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ).
ــ قصة سعد ابن أبي وقاص حيث رُوِي أن الرسول صلوات الله وسلامه عليه لما دخل على سعد بن أبي وقاص يعوده قال: "إني قد بلغ مني الوجع وأنا ذو مال ولا يرثني إلاّ ابنة لي، أ فأتصدّق بثلثي مالي؟ قال: لا، فقلت: بالشطر (أي النصف) قال:" لا" قلت: "بالثلث،" قال: "الثلث والثلث كثير إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكفّفون الناس." يدل هذا الحديث على أن الابنة تحوز ما زاد على الثلث، وذلك لا يكون إلاَّ على جهة الرد.
ـ حديث عمرو ابن شعيب عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم ورّث بِنت المُلاَعِنة من أُمّها أي ورّثها جميع المال ولا يكون ذلك إلا بطريق الرَّدّ.
ـ حديث وَاثِلة بن الأسقع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "تحوز المرأة ميراث لقيطها وعتيقها والابن الذي لُوعِنت به". وجه الدلالة هنا هو: أن النبي جعل ميراث ولد الملاعنة لأمه، وهذا يقتضي أن يكون جميع ميراثه لها، ولا يكون لها الجميع إلا بالردّ.
ـ ما روي أن امرأة قالت: يا رسول الله إني تصدقت على أمي بجارية فماتت أمي وبقيت الجارية فقال (صلى الله عليه واله): (وجب أجرك وعادت اليك الجارية). فرجوع الجارية كلها إليها دليل على جواز الرد وإلا فليس لها إلا النصف فرضاً، بحيث يمكن بيع الجارية وأخذ نصف ثمنها والنصف الثاني يؤول إلى العاصب. لكن الرسول (ص) عمل بقاعدة الرد دون قاعدة التعصيب.
ولمزيد من التوضيح فيما يخص اجتهاد المسلمين في الإرث، يمكن إحالة السيد الصمدي على الاختلاف بين الصحابة والأئمة والفقهاء حول إرث الجد في وجود الإخوة. وهل توريث الجد والجدة اجتهاد أم فريضة؟ ونفس الأمر فيما سمي بالمسألة "الحِمارية"، ثم اجتهاد الخليفة عمر بن الخطاب في تسوية الإخوة للأب الذين يرثون تعصيبا مع الإخوة للأم الذين يرثون فرضا لما جعلهم يرثون السدس فرادى أو الثلث مجتمعين حيث أنزلهم جميعا تحت حكم الآية الكريمة (وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ)النساء: 12.
لقد تجاهل السيد الصمدي التعديلات التي دخلت على مدونة الأسرة فيما يتعلق بالوصية الواجبة التي ورّثت أبناء البنت مع أبناء الابن بعدما كانوا محرومين من نصيب أمهم في تركة جدهم. كما تجاهل تعديلات الأحوال الشخصية في عدد من الدول العربية (تونس، اليمن، العراق، سوريا..) التي تطبق قاعدة الرد حماية للإناث من العصبة. وقاعدة الرد ليست استثناء، بل قاعدة أقرها وقال بها جمهور الصحابة والتابعين، وهو مذهب الحنفية والحنابلة والشيعة والامامية والزيدية ومتأخرو المالكية والشافعية. والمطالبة باعتماد قاعدة الردة في مدونة الأسرة لتشمل كل الحالات التي لم ترزق فيها الأسر ذكورا إلى جانب الإناث، ليس بدعة ولا "تآمرا على الإسلام" كما يتوهم الإسلاميون، وإنما هو عمل بما طبقه الرسول (ص) والصحابة وقال به الأئمة.